أزمة بيئية.. ملوحة المياه في البصرة تسرق أرزاق العراقيين وصحتهم
أزمة بيئية.. ملوحة المياه في البصرة تسرق أرزاق العراقيين وصحتهم
تفاقمت أزمة المياه في جنوب العراق إلى مستويات تنذر بكارثة إنسانية وبيئية غير مسبوقة، بعدما ارتفعت ملوحة المياه في محافظة البصرة ومناطق مجاورة إلى مستويات قياسية، جعلت المياه غير صالحة للشرب أو الزراعة أو حتى لتربية المواشي.
تكشف هذه الأزمة التي تفترس أرزاق الناس وصحتهم الوجه القاسي لتغير المناخ، ولسنوات طويلة من الإهمال وسوء إدارة الموارد المائية في بلدٍ كان يوماً مهداً للحضارات الزراعية، بحسب ما ذكرت وكالة "فرانس برس"، اليوم الجمعة.
فقدت أم علي، وهي أرملة وأم لثلاثة أطفال من منطقة المسحب شمال محافظة البصرة، مصدر رزقها حين وجدت دواجنها نافقة بسبب المياه المالحة.
تقول بمرارة: “وجدت الحلال ميتاً بسبب المياه المالحة، وصرت أبكي قهراً لأن كلّ تعبي راح”.
كانت أسرتها تعتمد على مياه النهر للشرب والطبخ والغسيل، لكن اليوم تحولت هذه المياه إلى خطر يهدد حياتهم.
فقدت المرأة هذا الموسم أربعين بطة وخمس عشرة دجاجة، في مشهد يعكس مأساة آلاف العائلات التي لم يعد في مقدورها حتى استخدام المياه اليومية دون خوف.
كارثة بيئية متفاقمة
يشهد العراق واحدة من أسوأ سنوات الجفاف في تاريخه الحديث، إذ انخفضت مناسيب نهري دجلة والفرات إلى مستويات حرجة نتيجة قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب إقامة السدود في دول الجوار.
يلتقي النهران في البصرة ليشكّلا شط العرب الذي يصب في الخليج العربي، لكنه اليوم بات ملوّثاً ومحمّلاً بالأملاح.
ويؤكد الأستاذ في جامعة الكوفة حسن الخطيب أن تراجع تصريف المياه العذبة سمح بتقدم مياه الخليج المالحة نحو الداخل، مما رفع معدلات الملوحة بشكل غير مسبوق.
ففي 23 سبتمبر الماضي، بلغت نسبة الملوحة في مركز البصرة 29 ألف جزء في المليون، مقارنة بـ 2600 فقط العام الماضي.
وعلّق المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال قائلاً: "لم نشهد مثل هذه المستويات من الملوحة منذ 89 سنة".
ضياع الزراعة والأحلام
في المزارع الممتدة جنوب البصرة، تعيش زليخة هاشم مأساة مماثلة. فبعد أكثر من 15 عاماً من العمل في مشتلها الزراعي، لم تعد قادرة على سقي أشجارها بسبب ملوحة المياه. تقول بأسى: "الماء صار مالح لدرجة ما نقدر نسقي الزرع به".
تزرع زليخة التين والرمان والسدر والمانغا، لكنها اليوم تواجه خطر خسارة عملها بالكامل. فالمياه الصالحة للشرب تباع بنحو 10 آلاف دينار لكل ألف لتر، وهو سعر لا تستطيع تحمّله. وتضيف: "لا يمكننا الهجرة، فإذا قررنا الهجرة، أين نذهب؟".
وتُظهر بيانات الأمم المتحدة أن 25% من النساء في البصرة يعملن في الزراعة، ما يعني أن تدهور نوعية المياه يهدد معيشة آلاف الأسر النسائية.
نزوح ومعاناة إنسانية
بحسب المنظمة الدولية للهجرة، نزح نحو 170 ألف شخص في وسط وجنوب العراق بسبب الظروف المناخية، خصوصاً زيادة ملوحة المياه. ومن بين هؤلاء مريم سلمان، التي تركت محافظة ميسان مع زوجها قبل ثلاث سنوات بحثاً عن مياه لجواميسهما.
تقول مريم: "كان الوضع جيداً حين وصلنا هنا، لكن الآن المياه سيئة، حتى ابنتي الصغيرة بدأت تعاني من طفح جلدي بسببها".
وشوهدت هياكل عظمية لثلاثة جواميس نفقَت بسبب الملوحة، في مشهد يختصر مأساة سكان يعيشون على الهامش، بين الفقر والجفاف والتلوث.
إجراءات وحلول مؤجلة
في محاولة لاحتواء الكارثة، أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية في يوليو الماضي زيادة الإطلاقات المائية نحو شط العرب، لكن المتحدث خالد شمال اعترف أن العراق ما زال يعاني من عجز حاد في الإيرادات المائية القادمة من تركيا وإيران، اللتين تقيمان سدوداً تقلل تدفق دجلة والفرات.
ويحصل العراق اليوم على أقل من 35% من حصته المائية المفترضة، وفق السلطات، أما الخبير حسن الخطيب، فيدعو إلى الاعتماد على تحلية مياه شط العرب كحلّ دائم، فيما أطلق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مشروع محطة لتحلية مياه البحر بطاقة مليون متر مكعب يومياً في البصرة.
وفي قرية أبو ملح، فقد الصيادون رزقهم بسبب نفوق الأسماك، وتحوّلت منازلهم إلى بؤر للأمراض الجلدية. تقول حمدية مهدي، البالغة 52 عاماً: "نعاني من الحساسية، والمياه المالحة خربت حياتنا، لا مال لدينا ولا مياه، وكلنا نغضب من بعضنا بسبب هذا الوضع".
ومع استمرار ارتفاع الملوحة، تتآكل فرص العيش في جنوب العراق، حيث أصبحت المياه التي كانت يوماً سبباً للحياة، مصدراً للألم والمعاناة والتهجير.